الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عطية في الآيات السابقة: {تبارك الّذِي بِيدِهِ الْمُلْكُ وهُو على كُلِّ شيْءٍ قدِيرٌ (1)}{تبارك} تفاعل من البركة، وهي التزيد في الخيرات، ولم يستعمل بيتبارك ولا متبارك، وقوله: {بيده} عبارة عن تحقيق {الملك}، وذلك أن اليد في عرف الآدميين هي آلة التملك فهي مستعرة، و{الملك} على الإطلاق هو الذي لا يبيد ولا يختل منه شيء، وذلك هو ملك الله تعالى، وقيل المراد في هذه الآية: ملك المولك، فهو بمنزلة قوله: {اللهم مالك الملك} [آل عمران: 26]، عن ابن عباس رضي الله عنه. وقوله تعالى: {وهو على كل شيء قدير} عموم، والشيء معناه في اللغة الموجود، و{الموت والحياة} معنيان يتعاقبان جسم الحيوان يرتفع أحدهما بحلول الآخر، وما في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح على الصراط»، فقال أهل العلم: ذلك تمثال كبش يوقع الله عليه العلم الضروري لأهل الدارين، إنه الموت الذي ذاقوه في الدنيا، ويكون ذلك التمثال حاملا للموت على أنه يحل الموت فيه، فتذهب عنه حياة، ثم يقرن الله تعالى بذبح ذلك التمثال إعدام الموت. وقوله تعالى: {خلق الموت والحياة ليبلوكم} أي ليختبركم في حال الحياة، ويجازيكم بعد الموت، وقال أبو قتادة نحوه عن ابن عمر: قلت يا رسول الله: ما معنى قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} فقال: «يقول: أيكم أحسن عقلا، وأشدكم لله خوفا، وأحسنكم في أمره ونهيه، نظرا وإن كانوا أقلكم تطوعا». وقال ابن عباس وسفيان الثوري والحسن بن أبي الحسن: {أيكم أحسن عملا} أزهدكم في الدنيا. وقوله تعالى: {ليبلو} دال على فعل تقديره: فينظر أو فيعلم أيكم، وقال جماعة من المتأولين: الموت والحياة، عبارة عن الدنيا والآخرة، سمى هذه موتا من حيث إن فيها الموت، وسمى تلك الحياة من حيث لا موت فيها، فوصفهما بالمصدرين على تقدير حذف المضاف، كعدل وزور، وقدم {الموت} في اللفظ، لأنه متقدم في النفس هيبة وغلظة، و{طباقا} قال الزجاج: هو مصدر، وقيل: هو جمع طبقة أو جمع طبق مثل: رحبة ورحاب، أو جمل وجمال، والمعنى بعضها فوق بعض، وقال أبان بن ثعلب: سمعت أعرابيا يذم رجلا، فقال: (شره طباق، خيره غير باق)، وما ذكر بعض المفسرين في السماوات من أن بعضها من ذهب وفضة وياقوت ونحو هذا ضعيف كله، ولم يثبت بذلك حديث، ولا يعلم أحد من البشر حقيقة لهذا. وقوله تعالى: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} معناه من قلة تناسب، ومن خروج عن إتقان، والأمر المتفاوت، هو الذي يجاوز الحدود التي توجب له زيادة أو نقصانا، وقرأ جمهور القراء: {من تفاوت}، وقرأ حمزة والكسائي وابن مسعود وعلقمة والأسود وابن جبير وطلحة والأعمش: {من تفوت} وهما بمعنى واحد، وقال بعض العلماء: {في خلق الرحمن} يعني به السماوات فقط، وهي التي تتضمن اللفظ، وإياها أراد بقوله: {هل ترى من فطور}، وإياها أراد بقوله: {ينقلب إليك البصر} الآية، قالوا وإلا ففي الأرض فطور، وقال آخرون: {في خلق الرحمن} يعني به جميع ما في خلق الله تعالى من الأشياء، فإنها لا تفاوت فيها ولا فطور، جارية على غير إتقان، ومتى كانت فطور لا تفسد الشيء المخلوق من حيث هو ذلك الشيء، بل هي إتقان فيه، فليست تلك المرادة في الآية، وقال منذر بن سعيد: أمر الله تعالى بالنظر إلى السماء وخلقها ثم أمر بالتكرير في النظر، وكذلك جميع المخلوقات متى نظرها ناظر، ليرى فيها خللا أو نقصا، فإن بصره ينقلب {خاسئا} حسيرا، ورجع البصر ترديده في الشيء المبصر.وقوله: {كرتين} معناه مرتين، ونصبه على المصدر، والخاسئ المبعد بذل عن شيء أراده وحرص عليه، ومنه الكلب الخاسئ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لابن صياد: «اخسأ فلن تعد وقدرك»، ومنه قوله تعالى للكفار الحريصين على الخروج من جهنم: {اخسؤوا فيها} [المؤمنون: 108]، وكذلك هنا البصر يحرص على روية فطور أو تفاوت فلا يجد ذلك، فينقلب {خاسئا}، والحسير العييّ الكالّ، ومنه قول الشاعر: الطويل:{ولقدْ زيّنّا السّماء الدُّنْيا بِمصابِيح وجعلْناها رُجُوما لِلشّياطِينِ}أخبر تعالى أنه زين السماء الدنيا التي تلينا بمصابيح وهي النجوم، فإن كانت جميع النجوم في السماء الدنيا فهذا اللفظ عام للكواكب، وإن كان في سائر السماوات كواكب، فإما أن يريد كواكب سماء الدنيا فقط، وإما أن يريد الجميع على أن ما في غيرها لما كانت هي تشق عنه، ويظهر منها، فقد زينت به بوجه ما، ومن تكلف القول بمواضع الكواكب وفي أي سماء هي، فقوله ليس من الشريعة. وقوله تعالى: {وجعلناها رجوما للشياطين} معناه وجعلنا منها، وهذا كما تقول: أكرمت بني فلان وصنعت بهم وأنت إنما فعلت ذلك ببعضهم دون بعض، ويوجب هذا التأويل في الآية أن الكواكب الثابتة والبروج، وكل ما يهتدى به في البر والبحر فليست براجم، وهذا نص في حديث السير، وقال قتادة رحمه الله: خلق الله تعالى النجوم زينة للسماء ورجوما للشياطين وليهتدى بها في البر والبحر، فمن قال غير هذه الخصال الثلاث فقد تكلف وأذهب حظه من الآخرة. {وأعتدنا} معنا: أعددنا والضمير في: {لهم} عائد على الشياطين، وقرأ جمهور الناس: {وللذين كفروا بربهم عذابُ جهنم} بالرفع على الابتداء والخبر في المجرور المتقدم، وقرأ الحسن في رواية هارون عنه: {عذاب} بالنصب على معنى (وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم)، قالوا: وعاطفة فعل على فعل، وتضمنت هذه الآية، أن عذاب جهنم للكافرين المخلدين، وقد جاء في الأثر أنه يمر على جهنم زمن تخفق أبوابها قد أخلتها الشفاعة، فالذي قال في هذا إن {جهنم} اسم تختص به الطبقة العليا من النار ثم قد تسمى الطبقات كلها جهنم باسم بعضها، وهكذا كما يقال النجم للثريا، ثم يقال ذلك للكواكب اسم جنس فالذي في هذه الآية هي جهنم بأسرها، أي جميع الطبقات، والتي في الأثر هي الطبقة العليا، لأنها مقر العصاة، والشهيق: أقبح ما يكون من صوت الحمار، فاحتدام النار وغليانها بصوت مثل ذلك، قوله تعالى: {تكاد تميز من الغيظ} أي يزايل بعضها بعضا لشدة الاضطراب كما قال الشاعر في صفة الكلب المحتدم في جربه: الرجز: وقرأ الضحاك: {تمايز} بألف، وقرأ طلحة: {تتميز} بتاءين، وقرأ الجمهور: {تكادُ تميز} بضم الدال وفتح التاء مخففة، وقرأ البزي {تكادُ} بضم الدال وشد التاء أنها {تتميز} وأدغم إحدى التاءين في الأخرى.وقرأ أبو عمرو بن العلاء: {تكاد تميز} بإدغام الدال في التاء، وهذا فيه إدغام الأقوى في الأضعف، وقوله تعالى: {من الغيظ} معناه على الكفرة بالله، وقوله تعالى: {كلما ألقي فيها فوج}، الفوج: الفريق من الناس، ومنه قوله تعالى: {في دين الله أفواجا} [النصر: 2] الآية، تقتضي أنه لا يلقى فيها أحد إلا سئل على جهة التوبيخ عن النذر فأقر بأنهم جاؤوا وكذبوهم، وقوله: {كلما} حصر. فإذا الآية تقتضي في الأطفال من أولاد المشركين وغيرهم، وفيمن نقدره صاحب فترة أنهم لا يدخلون النار لأنهم لم يأتهم نذير، واختلف الناس في أمر الأطفال، فأجمعت الأمة على أن أولاد الأنبياء في الجنة، واختلفوا في أولاد المؤمنين، فقال الجمهور: هم في الجنة، وقال قوم هم في المشيئة، واختلفوا في أولاد المشركين، فقالت فرقة: هم في النار، واحتجوا بحديث روي من آبائهم، وتأول مخالف هذا الحديث، أنهم في أحكام الدنيا، وقال: هم في المشيئة، وقال فريق: هم في الجنة، واحتج هذا الفريق بهذه الآية في مساءلة الخزنة، وبحديث وقع في صحيح البخاري في كتاب التفسير، يتضمن أنهم في الجنة. وبقوله عليه السلام: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فالأطفال لم يبلغوا أن يصنع بهم شيء من هذا». وقوله تعالى: {إن أنتم إلا في ضلال كبير} يحتمل أن يكون من قول الملائكة للكفار حين أخبروا عن أنفسهم أنهم كذبوا النذر، ويحتمل أن يكون من كلام الكفار للنذر.{وقالوا لوْ كُنّا نسْمعُ أوْ نعْقِلُ ما كُنّا فِي أصْحابِ السّعِيرِ (10)}المعنى وقال الكفار للخزنة في محاورتهم: {لو كنا نسمع أو نعقل} سمعا أو عقلا ينتفع به ويغني شيئا لآمنا ولم نستوجب الخلود في السعير، ثم أخبر تعالى محمدا أنهم اعترفوا بذنبهم في وقت لا ينفع فيه الاعتراف، وقوله تعالى: {فسحقا} نصب على جهة الدعاء عليهم وجاز ذلك فيه، وهو من قبل الله تعالى من حيث هذا القول مستقرا فيهم أزلا ووجوده لم يقع ولا يقع إلا في الآخرة، فكأنه لذلك في حيز المتوقع الذي يدعى فيه، كما تقول: سحقا لزيد وبعدا، والنصب في هذا كله بإضمار فعل، وأما ما وقع وثبت، فالوجه فيه الرفع كما قال تعالى: {ويل للمطففين} [المطففين: 1]، و{سلام عليكم} [الأنعام: 54، الأعراف: 46، الرعد: 24، القصص: 55، الزمر: 73]، وغير هذا من الأمثلة، وقرأ الجمهور: {فسحْقا} بسكون الحاء، وقرأ الكسائي: {فسُحقا} بضم الحاء وهما لغتان. اهـ. .قال أبو السعود في الآيات السابقة: {تبارك الذي بِيدِهِ الملك}البركةُ النماءُ والزيادةُ حسية كانتْ أو عقلية، وكثرةُ الخيرِ ودوامُهُ أيضا، ونسبتُها إلى الله عزّ وجلّ على المعْنى الأولِ وهُو الأليقُ بالمقامِ باعتبارِ تعالى هِ عمّا سواهُ في ذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، وصيغةُ التفاعلِ للمبالغةِ في ذلك فإنّ ما لا يتصورُ نسبتُهُ إليهِ تعالى من الصيغِ كالتكبرِ ونحوِهِ إنّما تنسبُ إليه سبحانه باعتبارِ غاياتِها، وعلى الثّاني باعتبارِ كثرةِ ما يفيضُ منهُ على مخلوقاتِهِ من فنونِ الخيراتِ، والصيغةُ حينئذٍ يجوزُ أن تكون لإفادةِ نماءِ تلك الخيراتِ وازديادِها شيئا فشيئا وآنا فآنا بحسبِ حدوثِها أو حدوثِ متعلقاتِها، ولاستقلالِها بالدلالةِ على غايةِ الكمالِ وإنبائِها عن نهايةِ التعظيمِ لم يجُزْ استعمالُها في حقِّ غيرِه سبحانه، ولا استعمالُ غيرِها من الصيغِ في حقِّه تبارك وتعالى. وإسنادُها إلى الموصولِ للاستشهادِ بما في حيزِ الصّلةِ على تحققِ مضمونِها، واليدُ مجازٌ عن القدرةِ التامّةِ والاستيلاءِ الكاملِ، أي تعالى وتعاظم بالذاتِ عن كلِّ ما سواهُ ذاتا وصفة وفعلا الذي بقبضةِ قُدرتِهِ التّصرفُ الكليُّ في كلِّ الأمورِ. {وهُو على كُلّ شيْء} من الأشياءِ {قدِيرٌ} مُبالِغٌ في القُدرةِ عليهِ يتصرفُ فيهِ حسبما تقتضيهِ مشيئتُهُ المبنيةُ على الحِكمِ البالغةِ. والجملة معطوفةٌ على الصِّلةِ مقررةٌ لمضمونِها مفيدةٌ لجريانِ أحكامِ مُلكِهِ تعالى في جلائلِ الأُمورِ ودقائِقها. وقوله تعالى: {الذى خلق الموت والحياة} شروعٌ في تفصيلِ بعضِ أحكامِ المُلكِ وآثارِ القُدرةِ وبيانِ ابتنائِهِما على قوانينِ الحِكمِ والمصالحِ واستتباعِهِما لغاياتٍ جليلةٍ. والموصولُ بدلٌ من الموصولِ الأولِ داخلٌ معهُ في حُكمِ الشهادةِ بتعاليهِ تعالى. والموتُ عند أصحابِنا صفةٌ وجُوديةٌ مضادةٌ للحياةِ، وأمّا ما رُوِي عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهُما منْ أنّهُ تعالى خلق الموت في صُورةِ كبشٍ أملح لا يمرُّ بشيءٍ ولا يجدُ رائحتهُ شيءٌ إلا ماتُ وخلق الحياة في صورةِ فرسٍ بلقاء لا تمرُّ بشيءٍ ولا يجدُ رائحتها شيءٌ إلا حيي، فكلامٌ واردٌ على منهاجِ التمثيلِ والتصويرِ. وقيل هو عدمُ الحياةِ فمعنى خلقِه حينئذٍ تقديرُهُ أو إزالةُ الحياةِ وأيّا ما كان فالأقربُ أنّ المراد بهِ الموتُ الطارئُ وبالحياةِ ما قبلهُ وما بعدهُ لظهورِ مداريتِهِما، لما ينطقُ بهِ قوله تعالى: {لِيبْلُوكُمْ أيُّكُمْ أحْسنُ عملا} فإن استدعاء ملاحظتِهِما لإحسانِ العملِ بما لا ريب فيهِ مع أنّ نفس العملِ لا يتحققُ بدونِ الحياةِ الدنيويةِ. وتقديمُ الموتِ لكونِهِ أدعى إلى إحسانِ العملِ، واللامُ متعلقةٌ بخلق أي خلق موتكُم وحياتكُم، على أنّ الألف واللام عوضٌ عن المضافِ إليهِ ليعاملكُم معاملة منْ يختبرُكم أيكُم أحسنُ عملا فيحازيكُم على مراتب متفاوتةٍ حسب تفاوتِ طبقاتِ علومِكُم وأعمالِكُم فإنّ العمل غيرُ مختص بعملِ الجوارحِ.ولذلك فسّرهُ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ بقوله: «أيكم أحسنُ عقلا وأورعُ عن محارمِ الله وأسرعُ في طاعةِ الله» فإنّ لكل من القلبِ والقالبِ عملا خاصّا به، فكما أنّ الأول أشرفُ من الثّانِي، كذلك الحالُ في عملِهِ، كيف لا ولا عمل بدونِ معرفةِ الله عزّ وجلّ الواجبة على العبادِ أثر ذي أثير وإنما طريقُها النظريُّ التفكرُ في بدائعِ صُنْعِ الله تعالى والتدبرُ في آياتِه المنصوبةِ في الأنفسِ والآفاقِ، وقد رُوِي عنْهُ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ أنّهُ قال: «لا تُفضِّلُونِي على يونِسُ بنِ متّى فإنّهُ كان يُرفعُ لهُ كلّ يومٍ مثلُ عملِ أهلِ الأرضِ» قالوا وإنّما كان ذلك التفكر في أمرِ الله عزّ وجلّ الذي هُو عملُ القلبِ ضرورة أنّ أحدا لا يقدرُ على أنْ يعمل بجوارحِهِ كلّ يومٍ مثل عملِ أهلِ الأرضِ. وتعليقُ فعلِ البلْوى أي تعقيبُهُ بحرفِ الاستفهامِ لا التعليقُ المشهورُ الذي يقتضِي عدم إيرادِ المفعولِ أصلا مع اختصاصِهِ بأفعالِ القلوبِ لما فيهِ من معْنى العلمِ باعتبارِ عاقبتِهِ كالنظرِ ونظائِره ولذلك أُجري مجْراه بطريقِ التمثيلِ، وقيل بطريقِ الاستعارةِ التبعيةِ. وإيرادُ صيغةِ التفضيلِ مع أنّ الابتلأ شاملٌ لهم باعتبارِ أعمالِهِم المنقسمةِ إلى الحسنِ والقبيحِ أيضا لا إلى الحسنِ والأحسنِ فقطْ للإيذانِ بأنّ المراد بالذاتِ والمقصدِ الأصليّ من الابتلاءِ هو ظهورُ كمالِ إحسانِ المحسنين مع تحققِ أصلِ الإيمانِ والطاعةِ في الباقين أيضا لكمالِ تعاضدِ الموجباتِ له وأما الإعراضُ عن ذلك فبمعزلٍ من الاندراجِ تحت الوقوعِ فضلا عن الانتظامِ في سلكِ الغايةِ للأفعالِ الإلهيةِ وإنّما هُو عملٌ يصدرُ عن عاملِهِ بسوءِ اختيارِهِ من غيرِ مصححٍ لهُ ولا تقريبٍ وفيهِ من الترغيبِ في الترقِّي إلى معارجِ العلومِ ومدارجِ الطاعاتِ والزجرِ عن مباشرةِ نقائِضِها ما لا يخْفى {وهُو العزيز} الغالبُ الذي لا يفوتُهُ من أساء العمل {الغفور} لمن تاب منهُم.{الذى خلق سبْع سموات}قيل هو نعتٌ للعزيزُ الغفورُ أو بيانٌ أو بدلٌ والأوجهُ أنه نُصب أو رُفع على المدحِ متعلقٌ بالموصلينِ السابقينِ معْنى وإنْ كان منقطعا عنهُما إعرابا كما مرّ تفصيلُهُ في قوله تعالى: {الذين يُؤْمِنُون بالغيب} من سورةِ البقرةِ منتظمٌ معهما في سلكِ الشهادةِ بتعاليهِ سبحانه، ومع الموصولِ الثّاني في كونِه مدارا للبلوى كما نطق بهِ قوله تعالى: {وهُو الذي خلق السموات والأرض في سِتّةِ أيّامٍ وكان عرْشُهُ على الماء لِيبْلُوكُمْ أيُّكُمْ أحْسنُ عملا} وقوله تعالى: {طِباقا} صفةٌ لسبع سمواتٍ أي مطابقة على أنّه مصدرُ طابقت النعل إذا خصفتها وُصف بهِ المفعولُ أو مصدرٌ مؤكدٌ لمحذوفٍ هو صفتُها أي طُوبقتْ طباقا. وقوله تعالى: {مّا ترى في خلْقِ الرحمن مِن تفاوت} صفةٌ أُخرى لسبع سمواتٍ، وضع فيها خلقُ الرحمنِ موضع الضميرِ للتعظيمِ والإشعارِ بعلةِ الحكمِ وبأنّه تعالى خلقها بقدرتِهِ القاهرةِ رحمة وتفضلا، وبأنّ في إبداعِها نعما جليلة أو استئنافٌ، والخطابُ للرسولِ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ أو لكلِّ أحدٍ ممّن يصلحُ للخطابِ، ومنْ لتأكيدِ النّفي أي ما ترى فيهِ من شيءٍ من تفاوتٍ أي اختلافٍ وعدم تناسُبٍ، من الفوتِ، فإنّ كلا من المتفاوتين يفوتُ منهُ بعضُ ما في الآخرِ وقرئ {من تفوتٍ}، ومعناهُما واحدٌ. وقوله تعالى: {فارجع البصر هلْ ترى مِن فُطُورٍ} متعلقٌ بهِ على معْنى التسببِ حيثُ أخبر أولا بأنه لا تفاوت في خلقهنّ ثم قيل فارجعِ البصر حتّى يتضح لك ذلك بالمعاينةِ ولا يبقى عندك شبهةٌ ما، والفطورُ الشقوقُ والصدوعُ جمعُ فِطْرٍ وهو الشقُّ يقال فطرهُ فانفطر.{ثُمّ اْرجِعِ البصر كرّتيْنِ} أي رجعتينِ أُخريينِ في ارتيادِ الخللِ والمرادُ بالتثنيةِ التكريرُ والتكثيرُ كما في لبّيك وسعديك أي رجعة بعد رجعةٍ وإنْ كثُرتْ. {ينقلِبْ إِليْك البصرُ خاسِئا} أي بعيدا محروما من إصابةِ ما التمسهُ من العيبِ والخللِ كأنّه يُطردُ عن ذلك طردا بالصّغارِ والقماءةِ {وهُو حسِيرٌ} أي كليلٌ لطولِ المعاودةِ وكثرةِ المُراجعةِ. وقوله تعالى: {ولقدْ زيّنّا السماء الدنيا} بيانٌ لكونِ خلقِ السمواتِ في غايةِ الحسنِ والبهاءِ إثر بيانِ خُلوِها عن شائبةِ القصورِ. وتصديرُ الجملة بالقسمِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بمضمونِها أي وبالله لقد زيّنا أقرب السمواتِ إلى الأرضِ {بمصابيح} أي بكواكب مضيئة بالليلِ إضاءة السرجِ من السياراتِ والثوابتِ تتراءى كأن كُلّها مركوزةٌ فيها مع أنّ بعضها في سائرِ السمواتِ وما ذاك إلا لأنّ كلّ واحدةٍ منها مخلوقةٌ على نمطٍ رائقٍ تحارُ في فهمِهِ الأفكارُ وطرازٍ فائقٍ تهيمُ في دركِهِ الأنظارُ {وجعلناها رُجُوما للشياطين} وجعلنا لها فائدة أُخرى هي رجمُ أعدائِكُم بانقضاضِ الشهبِ المقتبسةِ من نارِ الكواكبِ، وقيل معناهُ وجعلناها ظنونا ورجوما بالغيبِ لشياطينِ الإنسِ وهم المنجمون، ولا يساعدهُ المقامُ والرجومُ جمع رجْمٍ بالفتحِ وهو ما يُرجمُ بهِ {وأعْتدْنا لهُمْ} في الآخرةِ {عذابِ السعير} بعد الاحتراقِ في الدُّنيا بالشهبِ {ولِلّذِين كفرُواْ بِربّهِمْ} من الشياطينِ وغيرِهِم {عذاب جهنّم} وقُرئ بالنصبِ على أنّه عطف على {عذابِ السعيرِ} و{للذين} على {لهم} {وبِئْس المصير} أي جهنمُ {إِذا أُلْقُواْ فِيها سمِعُواْ لها} أي لجهنم وهو متعلقٌ بمحذوفٍ وقع حالا من قوله تعالى: {شهِيقا} لأنه في الأصلِ صفتُه فلما قُدمتْ صارتْ حالا أي سمعُوا كائنا لها شهيقا أي صوتا كصوتِ الحميرِ وهو حسيسُها المنكرُ الفظيعُ قالوا الشهيقُ في الصدرِ والزفيرُ في الحلقِ {وهِى تفُورُ} أي والحالُ أنها تغلِي بهم غليان المِرْجِلِ بما فيهِ، وجعلُ الشهيقِ لأهلِها منهُم وممن طُرح فيها قبلهُم كما في قوله تعالى: {لهُمْ فِيها زفِيرٌ وشهِيقٌ} يرده قوله تعالى: {تكادُ تميّزُ} أي تتميزُ وتتفرقُ {مِن الغيظ} أي منْ شدةِ الغضبِ عليهِم فإنّه صريحٌ في أنّهُ من آثارِ الغضبِ عليهِم كما في قوله تعالى: {سمِعُواْ لها تغيُّظا وزفِيرا} فأين هُو من شهيقِهِم الناشئ من شدةِ ما يقاسونهُ من العذابِ الأليمِ، والجملة إما حالٌ من فاعلِ تفورُ أو خبرٌ آخرُ. وقوله تعالى: {كُلّما أُلْقِى فِيها فوْجٌ} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ حالِ أهلِها بعد بيانِ حالِ نفسِها وقيل حالٌ من ضميرِها أي كلما أُلقى فيها جماعةٌ من الكفرةِ.{سألهُمْ خزنتُها} بطريقِ التوبيخِ والتقريعِ ليزدادُوا عذابا فوق عذابٍ وحسرة على حسرةٍ {ألمْ يأْتِكُمْ نذِيرٌ} يتلُو عليكُم آياتِ ربِّكُم وينذركُم لقاء يومِكُم هذا كما وقع في سورةِ الزمرِ ويعربُ عنه جوابهُم أيضا {قالواْ} اعترافا بأنه تعالى قد أزاح عللهُم بالكليةِ {بلى قدْ جاءنا نذِيرٌ} جامعين بين حرفِ الجوابِ ونفسِ الجملة المجابِ بها مبالغة في الاعترافِ بمجيءِ النذيرِ وتحسرا على ما فاتهُم من السعادةِ في تصديقِهِم وتمهيدا لبيانِ ما وقع منهُم من التفريطِ تندما واغتماما على ذلك أيْ قال كلُّ فوجٍ من تلك الأفواجِ قد جاءنا نذيرٌ أي واحدٌ حقيقة أو حكما كأنبياءِ بني إسرائيل فإنهم في حكمِ نذيرٍ واحدٍ فأنذرنا وتلا علينا ما نزّل الله تعالى من آياتِهِ.{فكذّبْنا} ذلك النذير في كونِهِ نذيرا من جهتِهِ تعالى: {وقُلْنا} في حقِّ ما تلاهُ من الآياتِ إفراطا في التكذيبِ وتماديا في النكيرِ {مّا نزّل الله} على أحدٍ {مِن شيْء} من الأشياءِ فضلا عن تنزيلِ الآياتِ عليكُم {إِنْ أنتُمْ} أي ما أنتُم في ادعاء أنّه تعالى نزّل عليكُم آياتٍ تُنذروننا بِما فيها {إِلاّ في ضلال كبِيرٍ} بعيدٍ عن الحقِّ والصوابِ. وجمعُ ضميرِ الخطابِ مع أنّ مخاطِب كلِّ فوجٍ نذيرُهُ لتغليبِهِ على أمثاله مبالغة في التكذيبِ وتماديا في التضليلِ كما ينبئُ عنهُ تعميمُ المُنزِّلِ مع تركِ ذكرِ المُنزّلِ عليهِ فإنّه مُلوِّحٌ بعمومِهِ حتما وأما إقامةُ تكذيبِ الواحدِ مُقام تكذيبِ الكلِّ فأمرٌ تحقيقيٌّ يصارُ إليهِ لتهويلِ ما ارتكبُوا من الجناياتِ لا مساغ لاعتبارِهِ من جهتِهِم ولا لإدراجِهِ تحت عبارتِهِم، كيف لا وهو منوطٌ بملاحظةِ إجماعِ النذرِ على ما لا يختلفُ من الشرائعِ والأحكامِ باختلافِ العصورِ والأعوامِ وأين هُم من ذلك وقد حال الجريضُ دون القريضِ. هذا إذا جعل ما ذُكِر حكاية عن كلِّ واحدٍ من الأفواجِ، وأما إذا جُعل حكاية عن الكلِّ فالنذيرُ إمّا بمعْنى الجمعِ لأنّه فعيلٌ أو مصدرٌ مقدرٌ بمضافٍ عام أي أهلُ نذيرٍ أو منعوتٌ بهِ فيتفقُ كلا طرفي الخطابِ في الجمعيةِ، ومن اعتبر الجمعية بأحدِ الوجوهِ الثلاثةِ على التقديرِ الأولِ ولم يخصّ اعتبارها بالتقديرِ الأخيرِ فقد اشتبه عليهِ الشؤونُ واختلط بهِ الظنونُ وقد جُوِّز أنْ يكون الخطابُ من كلامِ الخزنةِ للكفارِ على إرادةِ القول على أنّ مرادهُم بالضّلالِ ما كانُوا عليهِ في الدُّنيا أو هلاكهُم أو عقابُ ضلالِهِم تسمية لهُ باسمِ سببِهِ وأن يكون من كلامِ الرسلِ للكفرةِ وقد حكوه للخزنةِ فتأملْ وكُنْ على الحقِّ المبينِ.{وقالواْ} أيضا معترفين بأنّهم لم يكونُوا ممن يسمعُ أو يعقلُ {لوْ كُنّا نسْمعُ} كلاما {أوْ نعْقِلُ} شيئا {ما كُنّا في أصحاب السعير} أي في عدادِهِم ومن أتباعِهِم وهم الشياطينُ لقوله تعالى: {وأعْتدْنا لهُمْ عذاب السعير} كأنّ الخزنة قالوا لهم في تضاعيفِ التوبيخِ ألم تسمعُوا آياتِ ربِّكُم ولم تعقِلُوا معانِيها حتّى لا تُكذبُوا بها فأجابُوا بذلك {فاعترفوا بِذنبِهِمْ} الذي هو كُفرهم وتكذيبُهُم بآياتِ الله ورسولِهِ {فسُحْقا} بسكونِ الحاءِ، وقرئ بضمِّها مصدرٌ مؤكدٌ إمّا لفعلٍ متعد من المزيدِ بحذفِ الزوائدِ كما في قعدك الله أي فأسحقهُم الله أي أبعدهُم من رحمتِهِ سُحْقا أي إسْحاقا أو لفعلٍ مترتبٍ على ذلك الفعلِ أي فأسحقهُم الله فسحقُوا أي بُعدوا سُحقا أي بُعْدا كما في قول منْ قال وعضةُ دهرٍ يا ابْن مروان لم تدع... مِن المالِ إلا مُسْحتٌ أو مُجلِّفُ أي لم تدع فلم يبق إلا مسحتٌ إلخ وعلى هذينِ الوجهينِ قوله تعالى: {وأنبتها نباتا حسنا} واللامُ في قوله تعالى: {لأصحاب السعير} للبيانِ كما في هيت لك ونحوِهِ والمرادُ بهم الشياطينُ والداخلون في عدادِهِم بطريقِ التغليبِ. اهـ.
|